د. محمد طالب عبيدات

يعتبر البحث العلمي القاعدة الأساسية التي تنطلق منها محاور التنمية الصناعية والاجتماعية والاقتصادية وهو مقياس التقدم للدول، وأن التفاوت الواضح بين الدول المتقدمة والدول النامية يرجع بشكل أساسي إلى الاستثمار في البحث العلمي وتطبيق نتائجه في كافة القطاعات التنموية. ولهذا فإننا في الأردن إذا ما أردنا مواصلة مسيرة التقدم والتنمية ومواجه تحديات العولمة وتضييق الفجوة مع الدول الصناعية والتكنولوجية التي تمتلك أسباب المعرفة المتقدمة فلا بد لنا من الاهتمام بالبحث العلمي ولا بد من وضع استراتيجيات وخطط عمل دورية وواقعية وأولويات قابلة للتطبيق لما يجب أن يكون عليه البحث العلمي المستقبلي في كافة المؤسسات البحثية، خوفا من أن نصبح مستخدمين لا منتجين أو مطورين للتكنولوجيا الحديثة . ولعل تخصيص موازنة سنوية مناسبة لهذا الغرض تصل إلى أكثر من 1% من الناتج المحلي الإجمالي تعتبر الخطوة الأولى على الطريق، بحيث تصرف هذه الموازنة من خلال إدارة فاعلة ومؤثرة وتشريعات منظمة على تهيئة بيئة بحثية مناسبة ومتطورة وكوادر بشرية مدربة وعلى تمويل المشاريع البحث العلمي والتطوير في مؤسسات التعليم العالي والمراكز البحثية المتخصصة في مختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية التي تؤدي إلى تحقيق خطط التنمية في هذه القطاعات، وفي هذا المجال فان الشراكة بين مؤسسات التعليم العالي وقطاعات الإنتاج المختلفة لها دور محوري في التنمية الشاملة وتؤدي إلى تطوير كلا الجانبين.

ولعلنا نحتاج إلى نمذجة التعاون التطبيقي بين المؤسسات الأكاديمية والقطاعات الصناعية والخدمية من خلال خلق فرص للشراكة المؤطرة بين أعضاء هيئة التدريس من ذوي الاختصاص وبين الشركات ذات الصبغة التطبيقية. وربما يكون برنامج دكتور لكل مصنع والذي بدأ منذ قرابة التسع سنوات باكورة هذه النمذجة. مما يعود بالمنفعة المتبادلة على كل من الجامعات وأرباب العمل، ويعزز دور البحث العلمي التطبيقي خدمة للاقتصاد الوطني الذي يتجه باضطراد صوب اقتصاد المعرفة. ويشكل بذلك منظومة تنافسية ليس على مستوى الوطن فحسب بل على مستوى العالم – الذي وضعته ثورة الاتصالات والانفجار المعرفي بين يدينا جميعا. ولعل ذلك يشكل تحديا جل عظيم للجامعات كي تخرج من أسوارها وتساهم في خدمة وتطوير المجتمع المحلي وتعزيز قدرة قطاعات الإنتاج المختلفة على النمو والتطوير والتمكين. كما يشكل ذلك تحديا آخر للشركات كي تطور نوعية منتجها ليكون له حضورا وليدخل المنافسة العالمية من أوسع الأبواب. ويساهم في إعطاء جرعة ثقة معنوية للجامعات والشركات لخلق الحافزية لديهم للتطوير والإبداع والتميز على سبيل الإسهام بفاعلية في مسيرة الوطن التنموية وإيجاد الحلول التطبيقية للعديد من الصعوبات التقنية التي قد تعترض طريق قطاعات الإنتاج والخدمات والصناعة. ليصب ذلك في مسار الجهد الجمعي المترادف الذي يحقق التكاملية والشراكة بين القطاعين العام والخاص.

كما أن البحث والتطوير يعتبران من المرافق الاستثمارية الهامة التي تؤدي إلى التحولات التكنولوجية بجميع أبعادها المادية والبشرية والنظرية والتطبيقية والمدنية والعسكرية. ويعتبر البحث والتطوير كأي استثمار اقتصادي يعتمد على معايير تقييم الجدوى والكفاءة. فالبحث والتطوير نشاط علمي تكنولوجي مؤسسي، يقوم على توجيه مخطط للإنفاق الاستثماري وفق معايير الجدوى الاقتصادية، وذلك لتعزيز المعرفة العلمية في المجالات كافة، وربطها بوسائل الاختبار والتطبيق والإنتاج، بما يضمن تطويراً أو ابتكاراً أو اختراعاً لتوليد أجهزة أو مواد أو أساليب إنتاج أو منتجات جديدة أو محسنة أو لرفع الكفاءة الإنتاجية.

وغالبا ما تستخدم المؤشرات التالية لربط البحث والتطوير بالأداء الاقتصادي، ومنها على سبيل الأمثلة لا الحصر: حجم الإنفاق الاستثماري الحقيقي ونسبة هذا الإنفاق إلى مجموع الإنفاق في منشأة أو صناعة أو بلد ما، عدد العلماء والتقنيين من المتخصصين في العلوم التطبيقية والهندسية العاملين في البحث والتطوير والخبراء ذوي المؤهلات العالية في مجالات تقييم المشروعات وتقييم كفاءة الأداء، وقيمة النواتج المباشرة لنشاطات البحث والتطوير كالأجهزة الرأسمالية والمواد المستخدمة والمنتجات النهائية والكوادر المدربة والبحوث العلمية المتخصصة وبراءات الاختراع وقواعد المعلومات وغيرها.

ولهذا فلا بد من تقييم كافة البرامج الاستثمارية الموجهة للبحث والتطوير وتقويم نتائجها التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية المختلفة. ولا بد كذلك من ربط نشاطات البحث العلمي والتكنولوجي بحاجات المجتمع الحقيقية وبالاستراتيجيات المعتمدة للتنمية الصناعية في الوطن. ويجب تعبئة العلماء والكوادر المتخصصة للعمل في فرق عمل مشتركة تعمل بروح الفريق الواحد، وإيجاد بدائل محلية ذات تكاليف أدنى من مثيلاتها الأجنبية، وربط مؤسسات التعليم ومراكز البحث بالتحولات الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية والثقافية.

ومن هنا تبرز أهمية إنشاء مراكز متقدمة للبحث والتطوير على جميع المستويات، وجذب العلماء وتقديم حوافز سخية لهم. إضافة إلى البرامج المتقدمة في التدريب والدراسات العليا داخلياً وخارجياً، وزيادة الإنفاق على نشاطات البحث والتطوير نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، حيث تصل هذه النسبة في الدول المتقدمة إلى (2.5%)، في حين أنها لا تتجاوز (0.2%) في الدول النامية. ويرتبط بذلك زيادة نسبة العاملين في البحث والتطوير إلى مجموع السكان، إذ تقدر بالدول النامية بحوالي (0.07%) بينما تصل في الدول المتقدمة إلى (0.31%) –أي بنسبة تتجاوز أربع أضعاف الدول النامية-، وهذا ينعكس على مساهمة الدول الصناعية المتقدمة في الابتكارات التطبيقية والاختراعات، حيث تجاوزت (80%) من مجموع براءات الاختراع المسجلة في العالم.

ولعل تطوير البحث العلمي والتطوير يتطلب دعما حكوميا وتعاونا وثيقا بين مؤسسات التعليم العالي ومراكز البحث العلمي والقطاعات الإنتاجية العامة والخاصة وذلك من خلال محاور عدها منها دعم الحاجات الرئيسية للقوى البشرية، وعمل التعديلات اللازمة للسياسات والتشريعات، ودعم التمويل الموجه للبحث العلمي، ودعم وسائل البنية التحتية، ودعم شبكات الاتصال والتواصل مع الباحثين والمؤسسات العالمية.

كما أننا نتطلع لإيجاد الآليات المناسبة لدعم العلاقات البينية بين العلماء الباحثين ومؤسسات البحث العلمي من جهة وقطاعات الإنتاج والخدمات والصناعة من جهة أخرى، لتصبح هذه العلاقة متينة ومبنية على شراكات واقعية ومستدامة، ليساهم الجميع في رفعة الوطن وبتكاملية تامة بين القطاعات كافة.

لقد آن الأوان أن تُوجّه الطاقات البحثية لحل مشاكل حقيقية تتواءم مع خطط التنمية الشاملة والمستدامة، وأن تُشبّك كل المؤسسات الإقتصادية والعلمية والأكاديمية والإنتاجية لغايات التكاملية فيما بينهم، وآن الأوان أن يؤمن أصحاب القرار وقطاعات الخدمات والإنتاج والصناعة بضرورة البحث العلمي للجميع لغايات التطوير، وآن الأوان أن يؤمن أعضاء هيئة التدريس والإدارات الجامعية بأن البحث العلمي ليس لغايات الترقيات العلمية أو وضع الأبحاث في الأدراج وعلى الرفوف فقط بل لغايات تطبيقية وحل مشاكل واقعية، وأنه ليس ترفياً بل محورياً للتطوير وولوج الألفية الثالثة، وآن الأوان أن يؤمن الجميع بأن طلبة الدراسات العليا هم أساس البحث العلمي وأنهم الأساس في تبني حل مشاكل كثيرة يعاني منها القطاعين العام والخاص. ولهذا كلّه فالواجب يحتّم علينا صياغة إستراتيجية جديدة للبحث العلمي وتوطين التكنولوجيا تتواءم مع متطلبات العصر وأساسها الواقعية والتطبيق وحل المشاكل الفعلية ليساهم العلماء في رفعة الوطن وبرامج وخطط التنمية فيه لا خدمة ترقياتهم العلمية فقط لأن البحث العلمي صناعة وطنية يُعوّل عليها.

الدستور الأردني